[تعيد جدلية نشر هذه المادة بالإتفاق مع الكاتبة كشهادة على تبعات أحداث ”هبّة أكتوبر“ التي راح ضحيتها ١٣ فلسطينياً من الداخل عام 2000.]
ابن بلدتي الذي لم يكن لي معك لقاء ولا معرفة سابقة، ولربما لم نكن لنلتق أبدا لو أن المجزرة لم تحدث،\\ التقينا في مشفى رامبام- في حيفا، في البلدة التي أسكنها منذ سنوات. جمعتنا المجزرة وفرضت اللقاء. التقينا غريبين في مدينة غريبة. التقينا أبناء بلد في لحظة عجيبة.
كان لقاؤنا سريعاً، للحظات. أنت حضرت "كشهيد" ابن حي بير الأمير حين خروجك من المشفى في طريقك إلى البيت الى الناصرة. وأنا ابنة حي الخانوق حضرت للمشفى بشعور بنت البلد، حضرت ومعي مشاعر الأم والأخت.
أالزمن- قرابة الثانية بعد منتصف الليل- ليلة الغفران- ليلة الهجوم على الناصرة.
أحد الأصدقاء يهاتف: "أنا في طريقي إلى مشفى رامبام، وصلت مجموعة من المصابين في مجزرة الناصرة، حالاتهم خطرة، أحدهم استشهد، الأم والأخت موجودتان هناك ولا تعرفان بعد، هناك حاجة لعاملات اجتماعيات ونساء للوقوف بجانبهن".
"سآتي حالاً..".
نصل هناك أنا وزوجي، مُتحدّين حجارة الغفران التي من الممكن أن تُقذف علينا. لتقي هناك إحدى الصديقات، لم نلتق منذ قرابة السنة، كانت خارج البلاد، وها نحن نلتقي اليوم- يا لسخرية القدر. نحتشد جميعا في المصعد.
معلومات - الشاب يدعى وسام يزبك، 26 عاماً، غدروه، أطلقوا عليه من الخلف.
تتراكض في مخيلتي صورة الطفل (محمد) الذي أطلقوا عليه وهو يحاول أن يحتمي بوالده. غصة في القلب. نخرج من المصعد، مجموعة من الشباب تقف بالممر، الأم جالسة على الكرسي، الأخت بقربها. صمت يخيم على المكان، ترقب، خوف، دموع حبيسة. الجميع يتبادل نظرات خاطفة. لا كلام. ..
يخرج العم مسرعاً من غرفة العمليات وعيناه دامعتان. تركض الأم نحوه. تركض الأخت. "أريد أن أراه، كيف هو، ما هو وضعه..." أسئلة وأسئلة عن وضع وسام... تتدافعان باتجاه باب غرفة العلميات الذي يغلق بوجههن من تلقاء ذاته.
العم ينفجر بالبكاء، أحدهم يقول: "إ س ت ش ه د، وسام شهيد، الله أكبر".
صراخ كأنه دوي قنابل في فضاء الممر.. يخترق رأسي. يخترق جدران الممر، يكسر الهدوء.. الأخت تدفع بنفسها نحو الباب. "لا أريد أن أراه".الأم: "ابني.. وسام". تهرع صديقتي نحو الأم، أنا نحو الأخت. أتساءل لماذا يجب منعها؟!!، ماذا يمكن أن أفعل، أشعر حينها بالعجز أمام الموقف.
أصوات: ”من الأفضل إبعادهن، تهدئتهن.. أحضروا ماء، انتبهوا.“
الجميع مصعوقون، نسير مسرعين مبتعدين عن المكان، ننزل إلى الطابق الأول باتجاه مدخل المشفى.. صراخ الأخت ولعناتها لشعب الله المختار ولهمجيّتهم ولوحشيّتهم تختلط ببكاء الأم ونحيبها.
سؤال يعيد نفسه من كلتيهما: لماذا؟ لماذا وسام.. لماذا وسام؟
ويبقى السؤال معلقاً في الهواء، دونما جواب. صدى السؤال يعيد نفسه في رأسي: لماذا؟! لعنات وصراخ. أصوات: استهدي بالله، أطلبوا له الرحمة، انه شهيد، ممنوع البكاء عليه.
أصوات- ابنك شهيد، أخوك شهيد، وسام شهيد.
بعد فترة من الزمن- الأخت شبه باكية ضاحكة تقول لأحد الأصدقاء- أصدقاء وسام: "لم يلبس البدلة التي اشتراها البارحة، قلت له إنها غامقة، لكنه أرادها كحلية، قلنا له عريس بيلبقلك.. قلتله عريس ونيّالها اللي بدها تآخذك". الأم تتحسر: "ما قلت بدك تروح على الأردن؟، يا ريت رحت، ليش ما رحت".
تتعانقان، تتبادلان الأحزان. صديقتي تبكي لما تسمعه. أكاد أبكي. تتجمد الدمعة في عيني. أشعر بالاختناق. نبتعد عنهن قليلاً. نحترم توحدهم ورغبتهن بذلك. المشاعر بحجم الحدث. المشاعر أكبر من الحدث. الكلام يضعف أمام هول الكارثة.
الجميع ينتظر الأب ليتعرف على جثة وسام. وسام تحول الى جثة. جثة شهيد.
لا يسمحون للام بالدخول. تتوسل دون فائدة. تعدهم أن تحافظ على هدوئها، يعدونها أن تراه وأن ترافقه للبيت بسيارة الإسعاف. يحضر الأب. أحد الحضور ابن صفي من الثانوية، لم نلتق من زمن. جمعتنا المجزرة اليوم، اقترب منه غير مصدقة. أسال عن القرابة-ابن ابن عمي. تمر حوالي ساعة أخرى، تحضر خلالها سيارة الإسعاف التي أحضرته من الناصرة، تحضر لتأخذه. تتحدث الأم والأخت معزيتين بعضهما البعض بأن لا تعزية بعد اليوم. افزع مما اسمع ولا أقدر أن أستوعب المأساة.
الأخ تزوج قبل أيام. سيعود من شهر العسل غداً. من سيخبره، كيف سيخبرونه، ماذا يقولون. يا لهول المأساة! أفكر، مسكينة هذه الأم زفت عريساً وأملت أن تزف الآخر عريساً فزفّته شهيداً.
تتعالي أصواتهن: "وسام البكر، نوارة البيت، من سيُدرِّس الأخوة الصغار، من سيأخذهم "لفّة" بالسيارة".."البيت مليان وحاضر، كل شيء جاهز، العفش جاهز، بقيت العروس". تقول الأم: "رائحته على الثياب، على التخت، تبكي "كيف بدي أدخل البيت".
اقتربت اللحظة، ألمح من بعيد عبر زجاج المشفى الأب والأصدقاء يجرون سريراً ويتجهون نحونا. تنهض الأم مسرعة، ترمي بنفسها على السرير وتشهق، تحاول ألا تصرخ فقد وعدتهم! يركض الجميع باتجاه سيارة الإسعاف، تحاول الأم أن تصعد، تحاول الأخت أن تصعد، يعتذرون لها، لا مكان بالسيارة. يؤكد الرجل الذي يلبس الأبيض ويُقسم أن لا مكان بالسيارة. أنظر لداخل السيارة وأصدقه. ما أصعب القدر. تتوسلهم، لا يجدي البكاء، يسرع أحدنا بفتح باب السيارة الأخرى لتدخل. تسقط على الأرض. أحاول وصديقتي إيقافها مجدداً. ماء، أحضروا ماء. نغسل لها وجهها.
تنطلق سيارة الإسعاف بسرعة. تنطلق السيارات الأخرى معها. نرفع يداً في الهواء. نلوح. لا أدري لماذا ألوّح. أهي تحية، أهو وداع!. تبقى يدي معلقة لحظات في الهواء. صمت مخيف يلف المكان ويخترق العتمة من حولنا. أنظر لصديقتي، شفتاها ترتجفان، يداها ترتجفان، تعانقني وتغرق في البكاء. أقف أراقب الفجر يخترق سماء ليلة المجزرة، ليلة الغفران. أي غفران، لمن الغفران؟ على ماذا؟ هل يمكن الغفران؟ الشباب يتحلقون، اقترب، أفهم أن بينهم أخوة شاب آخر. مصاب هو الآخر. اخترق الرصاص رئتيه.
أصوات: "واحد من اليهود رشهم السبعة بالجفت، البوليس أبعّدوه، يمكن شربوه ماي وهربوه" . "وسام كان داير وجه، عم بجمع الشباب، طخوه". تصدمني الحقيقة وتعيدني للواقع "قتل وسام لأنه عربي". أبتعد، لا أقدر أن أسمع المزيد.
من بعيد تلوح صورة الميناء، ميناء حيفا. يبدو الميناء هادئاً وحزيناً، لكنه يبدو جميلاً، بينما الصباح بدأ يغمر المكان. هدوء من حولنا، يبدو وكأن كل شيء كما كان. صورة سيارة الإسعاف وهي تنطلق بعيدا إلى الناصرة، إلى بلدتي ترافقني. بقع الدماء الملتصقة بالغطاء تلتصق بمخيلتي. فكرة تعتريني وتقلقني، لم يعد شيء كما كان، لم يعد شيء كما كان.
* نشرت في "فصل المقال" في 20.10.2000، وقد أهديتها يومها الى وسام.